لم تصرف البداوة بشظف عيشها , كما لم تصرف الحضارة بترفها و نعومة حياتها العربي من أن يكون شاعرا , بل أن الشعر كان ولا يزال سمته التي يعرف بها , وبابه الذي يطرق , فالشعر و الإنسان العربي توأمة خلقها الله لا يمكن فيها فصل طرف عن طرف , فهي حكاية عشق قديمة مازالت تتحدى الزمن , وتقف في وجه المتغربين الذين يحاولون تشويه هذه العلاقة , ويوارون نارها المتأججة التي يظهر العربي في أنوارها إنسانا مكتمل الإنسانية مشحوذا برقة الحس و نبل الطوية , و الأكثر من ذلك بلوغ الشعر عند العرب درجة القدسية , فهم المفاخرون و المتباهون إذا نبغ فيهم الشاعر , لم يخضعوا في تاريخهم إلا لهذا السلطان , سلطان اللسان الذي تزينه قلائد الشعر .
حتى وإن كرت الأيام على هذا اللسان فتداعت مملكته و هربت منه فصحاه أو هرب منها , وانغمس في لهجات متعددة و مختلفة إلا أن إحساس العربي بالشعر لم يتأثر يوما ولم تدنسه الآفات , ولم تطمس معالمه الراسخة نوائب التردي و التخلف , فولد من رحم هذا الإحساس لسان أخر و كلمات أخرى , تحاول أن تثبت الحقيقة الخالدة و عمق الارتباط الأبدي الذي يجمع النفس العربية و الشعر , فأزهرت القرائح رياضا من الشعر الملحون أو ما يعرف بالشعر الشعبي .
لقد بات هذا نوع من الشعر ثروة أخرى تضاف لرصيد الأمة ,وعنوانا أخر لها ,ومعلما من معالم عراقتها في البيان و الجمال و الحق , إن هذا اللون من الشعر تعبير صادق بسيط ,وإعلان صارخ لخلجات الأفئدة و الضمائر , وهو عروس العامية و قربانها الأثير الذي تقدمه مزهوة غير خجلة في معابد الشعر , تتسامق لتناطح الفصحى كتفا لكتف , ورأسا لرأس , لما يحمله هذا الوليد الرشيد من معان تعرج بكلماتها البسيطة إلى سموات الإبداع ومنتهاه كلما ارتقت فكت عنها قيد الحرف و انطلقت ساربة كطير من أطيان الجنان , ويبقى المعنى الجميل قي ا إسراء أبدي من نفس إلى نفس .
فهو ألذ صورة لما يجمع الناس من روابط مختلفة , وعدسة لاقطة لحركة العقل و القلب , ولا أتحرج إذا قلت أن هذا الشعر في حقيقته و جوهره إنما هو بحث عن الذات العربية , با هو طوق النجاة و حبل الأمان تعتصم به القريحة العربية حتى لا تهلك في مصارع التغريب مسلطة عليها .
و جرائرنا الحبيبة لها أبناء حملوا لواء هذا النوع من الشعر , وتصدوا به يتسابقون بإبداعاتهم و ينثرون قصائدهم التي حيكت من ماء النفوس الطيبة الصادقة لتبقى لصيقة الفكر و الوجدان تعاند الزمن المهلك في كبرياء , ومن يماري في هذا و يدعي غير ما نقول فخليق به أن يعود إلى أبائنا و أمهاتنا, يقلب أوراق أيامهم ,ويستحث ذكرياتهم ليتأكد أن الشعر الملحون له تاريخ عريض ووجود عريق , ويكفي هذا الشعر فضلا أنه شارك في حربنا التحريرية ضد فرنسا , فألهب النفوس حماسة و أشعل الضمائر غيرة , ونفخ في جذوة الوطنية و الدين , وغلف السواعد القابضة على السلاح يحفظها ويدفعها إلى ساحات الوغى , ويكفيه فضلا أن شارك في تدوين تاريخ هذا البلد الحبيب , وترك لنا ما يشبه المتحف إلا أن قطعه الأثرية قصائد نرى فيها ماضي ما ادر كناه .
وولاية الجلفة و ما جاورها واحدة من المتاحف المنشورة على رقعة هذا الوطن الغالي , فهي أكثر المناطق احتضانا لهذا اللون و أكثرها اهتماما ورعاية به , لأن أهل هذه المنطقة مازالوا قريبي عهد بالبداوة و طباعها , وليس لنا فسحة كافية الآن للكلام عن شعرائها جميعا , لكن ليكن حديثنا عن واحد من هذه القافلة الرائعة و ليكن الشاعر << سعد لطرشي>>.
هو شاعر من مواليد 1955 شاءت له الدنيا أن لا يرى نورها إلا بعيدا عن القرابة و الأهل , فطوحت به إلى شرق البلاد و بالضبط إلى مدينة الجسور المعلقة <<قسنطينة>> فكانت له فألا فمن يولد في مدينة كتلك لا بد أن يستنشق أريج العلم و عبق التاريخ , فتعلق النفس بالحقيقة تستولد الكلمة الجميلة وتنحت معان لها جلال الإبداع الأصيل.
ولكن وكأي طير مهاجر , وكأي عاشق تغرب عن الحبيب لا بد أن تهفو نفسه و تتدافع أشواقه إلى أرض حملت على تربتها الندية تاريخه فجاور قريته <<أسليم >> تلك القرية المستكينة الغارقة في نفسها , وقد توسطت عروسين من عرائس قبائل أولاد نائل العربية < الجلفة و بوسعادة > , يراقب قريته من بعيد يحرسها بعينه الحانية .
على أسليم أنايا نغني و نعاود القلاح متان وربي شــــــــــاهد
ما نقدر فرقة ما روح أنبعد نسكن غير احذاه في عوينة معبد
لخبار اتجيني انزورو يوم الحد ولانهار العيد عشوراء ومولد
وأن كانت النفوس بطبعها عاشقة و محبة للجمال ,فإن نفس الشاعر أكثر تطرفا في هذا , إن لم تكن نفسه ذاتها حبا و جمالا , وما اقسي أن يبتلى شريف النفس , متحفز الوجدان , بجمرات الحب فتعيش بحرها بين طيات خلجاته , والأقسى أن يرى حبه يغتال أمام عينيه , فأين يلجأ ؟ لا ملجأ لديه اليوم إلا في شعره ...يحاول أن يطبب جرحه فلا عزاء للشاعر إلا في شعره , وأية حبيبة أقرب إلى القلب و ألصق بالمهجة من التي تكون تاريخا لعمرك تكبر مع أيامك يوما بيوم
حيزية من الصغر أسمات عليا ولما تجي لينا يقولو مرت فلان
فيسع كبرت و زيانت صبحت بيه سبحانه ملاسها عظيم الشــأن
ولشاعرنا في هذه القصيدة أبيات لها بريق كبريق عين المحب التي تطل منها الروح في أصلها النوراني تريد أن تلف الحبيب شوقا
سحرتني و دات عقلي لبنيـــــة و حنانة من حبها زايد نشيـــــــــان
مثلتها للشمس كي طلت فيــــــا ولاحت عني نورها وضوى لمكان
خنفست أنايا وغمضت عينيــا حتى راح شعاعها و الحال أد كان
ولكن ....قدر شاعرنا في حبه أن لا يلتقي بمحبوبته و كذا قدر كل محب أخلص , وكل عاشق وفي ...قدره أن تتحول قصته إلى جري وراء أمل موعود لم تحققه هذه الدنيا .
و كأني ألمس النفس العربية الكريمة و هي تعتذر عن نفسها لرتعها في حمى الحرمات , ولكن لا سبيل لكف جماحها , وهي نفس قوامها الشعر , فما بالك إن كانت نفس عاشقة محبة .
نستسمح من زوجها وحتى هي واللي قلت أنا تعبير الوجدان
ويا لها من خاتمة تهيأت لشاعرنا فنفى عن محبوبته الخطيئة وجللها بتاج العفة و الصون عسى أن تكون له في غير هذه الدنيا .
يسألني بالله لا خنتو نايــا و نحلف حتى عليها هي ثــــــــــان
لا بد من الممات وفراق الدنيا ونتلاقى في الدايمة عند الرحمــان
ترجع أحبيبتي أنايا ليــــــــــــا نتنعم أنا وياها في الجنــــــــــــــان
رغم أن الهم سوسة تنخر القلب , وثقل يرهق النفس و الكاهل , فلا يدع من تمكن منه يسكن لراحة أو ينعم بعيش , إلا أن أجمل القلوب تلك التي اتخذت عهدا على نفسها أن تعيش بين الناس تحمل عنهم همهم , وتؤنسهم في وحشتهم , فتكون لسانا ناطقا بحالهم بدلا عن الألسنة أقعدها الخوف و التردد عن وصف أمرها
الفقير ذليل يدو فرغانة و كثير من الناس قوتو حاير فيه
ياربي وعلاه هكذا تنسانة و الفقر إذا طال يهلك مواليـــــه
يمرمدهم يشبعوا هانـــــة وينساو حتى عبادتك بسيبيــــــه
و إن كنا لا نوافق الشاعر على معنى البيت , ونقول أن الله لا يجوز عليه النسيان , وتطلب منه حسن الظن بالله , إلا أننا نلتمس له العذر فلنفس المضامة الشاكية شطحات تخرجها عن حدود المقبول .
و إن كان الشاعر لسانا للفقير فهو أيضا لسان لا يهادن من عبد السلطة وأعماه بريق الدهم و الدينار حتى نسى نفسه و الذين من حوله
و اليوم أترفه قاع و أنسانا و حسب دزاير تركة أبيـــــــــه
أعبد السلطة وأنساك وأنسانا حتى إطارتنا راهم عشقوا فيه
الأكيد أننا ما وفينا الشعر الملحون حقه , فهو بحر لا ساحل له ,وبداية لا نهاية لها , مادامت هناك نفس عربية نابضة كنفس شاعرنا << سعد>> الذي نوقن تمام اليقين أن ما سطرناه عنه لمسة خفيفة لم نستقص بها كامل الموجود , فنحن نعلم أنه نبع متجدد و عين نضاخة ولكن حسبنا الإضاءة السريعة المتواضعة التي تؤكد أن للملحون أصلا فينا يجب أن نأخذه بالدرس و الرعاية ففيه الخير الكثير